![قديم](images/statusicon/post_old.gif)
03-04-06, 10:12 AM
|
|
مؤتمر "الأقباط".. تصدعات وشروخ
(في ذكرى انعقاده: 5 من ربيع الأول 1329 هـ)
[IMG]http://www.islamonline.net/Arabic/history/1422/03/images/pic42.jpg [/IMG]
بطرس غالي
حين احتل الإنجليز مصر وفي سنواتهم الأولى أبعدوا الأقباط المصريين عن الوظائف العمومية التي كانوا يتبوءونها، وأتاحوا هذه الوظائف للشوام الذين كان غالبيتهم من النصارى؛ حيث رأى الإنجليز أن الأقباط الذين كانوا يسيطرون على جهاز الدولة المالي والإداري سيقفون عقبة أمامهم في سبيل تمكينهم من السيطرة الكاملة على ثروة مصر.
يُضاف إلى ذلك أن نصارى الشام كانوا أكثر تأثرا بالثقافة الإنجليزية على عكس أقباط مصر، ورأى الإنجليز أن استخدام منطق "العصا والجزرة" مع الأقباط سيؤدي إلى خلق جيل من الأقباط يرتبط بالإنجليز برباط المصلحة.
وسعى الإنجليز إلى خلق الشقاق والفرقة بين أبناء الوطن الواحد من خلال الإساءة إلى الدين الإسلامي، وقيام الصحافة القبطية الموالية للإنجليز بالهجوم على الوطنيين؛ ومن ذلك تبرير ما قام به الإنجليز في مذبحة دنشواي (1324هـ=1906م) التي كان بطرس غالي رئيس محكمتها، حيث ضربت هذه الصحافة على أوتار الفرقة بين المسلمين والأقباط، وخاصة جريدة "مصر" التي كانت مرتبطة بالاحتلال والتي أيدت إعدام الفلاحين.
وكان هدف الإنجليز من إثارة المشاعر الدينية لدى الأقباط هو محاولة القيام بعزل الأقباط عن الحركة الوطنية المصرية المناهضة للاحتلال.
وكان عام (1326 هـ=1908م) عاما مهما في محاولات الإنجليز إيجاد نوع من التصدع في العلاقة بين المسلمين والأقباط، حيث ارتفعت بعض الأصوات القبطية برفض مطلب الحركة الوطنية بالدستور، واتهمت هذه الأصوات القبطية حركة الوطنيين بأنها حركة تعصب إسلامي.
وحين رأى الإنجليز بعض الأصوات الوطنية القبطية داخل الحركة الوطنية المطالبة بالدستور دفعت ببعض عملائها لإثارة النعرات الطائفية لدى الأقباط، وكان أبرز تلك الأصوات التي لعبت دورا مشبوها في تلك الفترة هو "أخنوخ فانوس" الذي تربى في مدارس الإرساليات التبشيرية التي كانت تناهضها الكنيسة المصرية، والذي هجر مذهب الكنيسة المصرية الأرثوذكسية وارتبط بالكنيسة الإنجيلية.
سعى "أخنوخ" إلى تغيير مسار الكفاح الوطني في المطالبة بالدستور نحو المطالب الطائفية، فقام سنة (1315 هـ=1897م) بتقديم عريضة إلى اللورد كرومر بمطالب الأقباط، وأسس حزبا طائفيا هو "الحزب المصري" وكان معظم رجال ذلك الحزب من أثرياء الأقباط الذين تربطهم علاقات تجارية بالخارج، وكان ذلك محاولة لتأسيس طبقة من أثرياء القبط ترتبط مصالحها بالمصالح الاستعمارية وتمهد لمشاركة هذه الطائفة في الحكم والسيطرة عليه بعد ذلك على حساب بقية المصريين.
لكن هذا الحزب الطائفي فشل في أن يكون الإطار السياسي للأقباط؛ بل أحدث انقساما في الأوساط القبطية، حيث نشأ صراع بين المجلس الملي الذي يرأسه أخنوخ والكنيسة القبطية، وشنت الصحافة القبطية الطائفية هجوما عنيفا على بعض عقلاء القبط الذين رفضوا الدعوة لانقسام الأمة المصرية.
وقد نجح الإنجليز في تحويل ساحة النضال الوطني من رفض الاحتلال والمطالبة بالدستور إلى الناحية الطائفية وخلق روح الانقسام بين الوطنيين، ووسم حركة المطالبة بالدستور كحركة تعصب إسلامي.
ومما أثار المشاعر الوطنية هو أن صحيفتي "مصر" و"الوطن" القبطيتين كرستا جهودهما للدفاع عن الاحتلال واستمراره في مصر، مستخدمة عبارات مستفزة للشعور الديني والوطني، ومن ذلك "أنها دعت للتسبيح بحمد الاحتلال الإنجليزي لأن في ذلك حماية للأقباط"، و"أن الأقباط كانت حياتهم كلها معرضة للإبادة لو أن الاحتلال الإنجليزي تأخر أسبوعا واحدا عن غزو مصر".
واقترن هذا الموقف الإنجليزي بمحاولة أخرى، هي السعي إلى إثارة أزمات بين الأقباط أنفسهم خصوصا بين البطريرك والمجالس الملية على خلفيات كثيرة، منها إضعاف النفوذ الديني للبطريرك، ومسألة التبشير الكاثوليكي بين الأقباط، وهو ما أدى إلى تفتت ما في الموقف القبطي، ومن ذلك الصراع الذي شهدته الكنيسة القبطية المصرية بين البطريرك "كيرلس الخامس" والمجالس الملية، وهو الصراع الذي شارك فيه بطرس غالي رئيس الوزراء المصري والذي كان من أشد مؤيدي الإنجليز، واتخذ موقفا مناهضا للبطريرك أدى إلى استصدار أمر بنفي البطريرك وتجريده من سلطاته لمدة عام.
ونتيجة لهذين العاملين بدأت تتشكل المسألة القبطية على يد الاحتلال الإنجليزي في مصر، وعندما بدأت في التشكل غيّر الإنجليز موقفهم، وبدءوا يظهرون بمظهر الحامي للأقليات في مصر؛ خاصة بعد اغتيال بطرس غالي، حيث أعلن "أخنوخ" أنه لا سلامة للأقباط في مصر إلا مع وجود الاحتلال.
حركة المؤتمر في الأوساط القبطية
كانت الفكرة الأساسية لعقد المؤتمر القبطي هي تأييد سلطة المجلس الملي بحيث يكون له حق الإشراف على حسابات الطائفة في الأوقاف، لكن اغتيال بطرس غالي حوّل المؤتمر عن قصده الأول، ووجد البعض في ذلك الحادث فرصة لتوحيد الخلافات القبطية وتوجيهها نحو المسلمين.
ولم تكن حركة المؤتمر واسعة في الأوساط القبطية، فقد وقف كثير من القبط ضد فكرة عقد المؤتمر، ومن الشخصيات التي لم تؤيد ذلك المؤتمر واصف غالي ابن بطرس غالي الذي اعتبر المؤتمر مضرا بالجهود المبذولة لدعم الوفاق بين عنصري الأمة، كما عارضه ويصا واصف، وأبدى بطريرك الأقباط الأنبا "كيرلس الخامس" فتورا وقلقا ملحوظا من المؤتمر، وأصدر بيانا في هذا الشأن لوحظ فيه القلق من اجتماع الطائفة القبطية منفردة، ومن مكان الاجتماع في أسيوط (جنوب مصر)، وأشار إلى أن ذلك سيؤدي إلى قلق الخواطر وانشغال البال، وجاء تأييد المؤتمر من فئة قليلة من الأقباط من أصحاب الأراضي والأعيان بالوجه القبلي.
وأمام عدم التجاوب من أكثرية الأقباط لفكرة عقد المؤتمر ومكان انعقاده شعر المنظمون له بقلق من إمكانية فشله، وأن تكون المقاطعة القبطية له أكبر من معارضة المسلمين له، فقامت الصحف القبطية المؤيدة للمؤتمر بشن هجوم عنيف على المقاطعين، ووصفتهم بأنهم ما هم إلا إخوان يهوذا الإسخريوطي (الذي وشى بمكان السيد المسيح عليه السلام).
الطريق إلى مؤتمر أسيوط
وكان محددا للمؤتمر أن ينعقد في (15 من صفر 1328 هـ=24 من فبراير 1910م) بأسيوط، لكن اغتيال "بطرس غالي" رئيس الوزراء أعاق انعقاد ذلك المؤتمر في ذلك التوقيت، وفي الذكرى الأولى لاغتيال "بطرس" اجتمع عدد من أعيان القبط الأسيوطيين وانتخبوا لجنة من أعيانهم للتباحث في "المسألة القبطية"، وبدأت أعمال الدعوة للمؤتمر، وبلغ عدد الحاضرين فيه من الأقباط حوالي 1150 معهم توكيلات من 10500 قبطي، وكان نص الدعوة التي وجهت للحضور هي "الأخذ بيد الطائفة القبطية في سبيل رقيها ورفع شأنها والبحث في شئون الأقباط المدنية".
كان المزاج الوطني في مصر مشحونا في تلك الفترة، وكان جو الحذر الشديد يخيم على الجميع حذرا من أن تؤدي تصرفات أقلية من الأقباط أو المسلمين إلى إشاعة روح الكراهية بين عنصري الأمة المصرية، وقد انعكست هذه الروح على أجواء المؤتمر وشكلت عائقا كبيرا أمام أي دعوة للخروج بمطالب متطرفة قد تضر بالتماسك الوطني المصري، فتم اختيار شخصية قبطية -أقرب إلى الاعتدال- وهي شخصية "بشرى حنا" لرئاسة المؤتمر بدلا من "أخنوخ فانوس" الذي كان يسعى إلى رئاسة المؤتمر، وهو معروف بآرائه المتطرفة التي كانت تبحث عن عناصر الشقاق والاختلاف بين عنصري الأمة المصرية، كذلك جاءت كلمات المتحدثين في المؤتمر على قدر كبير من الهدوء والعقلانية والبعد عن الإثارة وعلى قدر واضح من البحث عن عناصر التآلف بين المصريين.
وقد لوحظ من الجو السائد في المؤتمر أثناء افتتاحه أن القائمين عليه كانوا حريصين أشد الحرص على ألا يخرج المؤتمر عن هدفه المنشود وألا يكون للخطاب الحاد مكان بين جنباته، وألا يكون صوت الفرقة هو الذي يعلو على صوت الوحدة والتآلف؛ ولذا كان هناك تحسب شديد من صدور مثل هذه الأصوات، وحتى لا تحدث مفاجآت غير متوقعة تم تحديد الخطباء الذين سيلقون الكلمات في المؤتمر، ولم يُسمح لأي شخص غيرهم بأن يتحدث إلا إذا عرض كلمته على لجنة الإدارة للمؤتمر قبلها بيوم واحد على الأقل مرفقا معها صورة من الخطبة التي سيلقيها، كذلك تم التشديد على عدم التعرض للمسائل الدينية أو السياسية، وحذرت من أن المخالفة في هذا الشأن سوف تمنع فورا.
عقد المؤتمر في (5 من ربيع الأول 1329 هـ=6 من مارس 1911م) وتم رفع العلم المصري فوق قاعة المؤتمر، وعزف السلام الخديوي، وبدأ المؤتمر بكلمة مطران أسيوط الذي طالب الحضور بأن يحافظوا على أحسن العلائق مع بقية إخوانهم المصريين، ثم توالت كلمات بقية الحضور، فتحدث المحامي "ميخائيل فانوس" حديثا بليغا تناول فيه مظاهر الوحدة بين المسلمين والأقباط باعتبار أن أصل هذا الشعب واحد منذ آلاف السنين، وأن التمييز الرئيسي بين المصريين قائم على المعتقد، وأن العقائد ليست هي الأساس الذي تقوم عليه الجنسية في وقتنا الحاضر، وأشار إلى أنه رأى في دار أبيه بالفيوم من المسلمين أكثر مما رأى من الأقباط، وأن بيتهم كان به مسجدات للصلاة ليؤدي عليها المسلمون عبادتهم عندما يحين وقتها.
لكن الملاحظ أن المؤتمر اكتسب خطورته الحقيقية من فكرة الانعقاد نفسها التي تقسم الأمة المصرية إلى عنصرين يقف كل منهما على ضفة من النهر، لا كشركاء يعيشون في وطن واحد.
مطالب المؤتمر وتوصياته
[IMG]http://www.islamonline.net/Arabic/history/1422/03/images/pic42a.jpg [/IMG]
اللورد كرومر
-إجازة يوم الأحد: حيث طلب "أخنوخ فانوس" إعفاء الأقباط موظفين وطلبة من العمل يوم الأحد؛ لأن المسيحية تأمرهم بالتعطل في ذلك اليوم، فهو كما قال "سبت مقدس"، وبذلك حاول "أخنوخ" أن يعطي انطباعا في المؤتمر أن عطلة الأحد هي أمر إلهي مقدس من الواجب احترامه، وأن إهداره في المدارس هو تعليم للطلاب على إهدار أوامر دينهم، وانتهى المؤتمر في هذه الجزئية إلى رفع مطلبهم إلى خديوي مصر والتماس موافقته على تخصيص يوم الأحد كإجازة رسمية للأقباط.
-إسناد الوظائف بلا تمييز: ورأى "توفيق دوس" المتحدث في هذه القضية أن الوظائف العمومية ليست تركة عن الحكومة تقسمها تبعا للنسبة العددية، كما أنها ليست أرضا سائبة يملكها أول من يضع يده عليها، وأنه من المضر بمصالح الأقباط أن يطلبوا نسبة من تلك الوظائف موازية لعددهم، وضرورة حصر شروط التوظف في الجنسية المصرية والكفاءة، والشخصية، واستدل بأن شواهد التاريخ الإسلامي تؤكد أن مقاليد الحكم كانت بيد المسلمين والأقباط على السواء منذ دخول الإسلام إلى أرض مصر حتى عصر محمد علي باشا، وأن التمييز لم يحدث إلا مع مجيء الاحتلال البريطاني إلى مصر، وأكد أنه إذا كان يعارض تميز المسلم بوظيفة ما فإنه يعارض أيضا أن يتميز القبطي على المسلم في التوظيف.
واستقر الرأي في هذا المؤتمر على أن يكون شرط الكفاءة هو المقياس الوحيد للوصول إلى المناصب العمومية للأجنبي والمصري على حد سواء، رغم اعتراض بعض الأقباط على فتح ذلك الباب أمام الأجانب.
-الأقباط والمجالس النيابية: رأى البعض ضرورة أن يتم تمثيل الأقباط في البرلمان بنسبة تتوازى مع عددهم، وكان رأي البعض أنه يجب عدم ذكر كلمة قبطي ومسلم عند التعرض للشئون المصرية العمومية، وكان آخرون يرون أن يكون للأقباط وجود حقيقي في المجالس النيابية، وأن يشاركوا فعلا في السلطة، ومن الضروري إفساح الطريق أمام الأقلية للتمثيل في تلك المجالس، كان هذا الجانب من اهتمام المؤتمر موضع نقاش كبير تحدث فيه عدد من الحضور، حيث اقترح البعض أن يكون حق الانتخاب متاحا للجميع، وأن ينتخب كل فريق الآخر.
-ضريبة الخمسة في المائة: كانت المديريات في مصر تفرض ضريبة 5% تحصلها للإنفاق على الكتاتيب الموجودة في الأقاليم، وكانت الدعوة تطالب بأن يكون الاستفادة من نظام الكتاتيب متاحا للجميع المسلم والقبطي واليهودي بدون تمييز، فإذا لم يتيسر ذلك فيقترح تخصيص ما يدفعه الأقباط لكتاتيب خاصة بهم، واستقر الرأي على أن يكون نظام الكتاتيب متاحا للجميع لأن تقسيم التعليم يؤدي إلى تقسيم الوحدة الوطنية.
-الخزينة المصرية: كان اقتراح مرقص فهمي هو وجوب جعل الخزينة المصرية مصدرا للإنفاق على جميع المرافق المصرية على حد سواء، ودعا "مرقص" إلى أن تكون الوطنية دينا عاما للمصريين، يشترك جميع المصريين في واجبها المقدس، ودعا لأن تؤسس الوطنية على مبدأ المساواة الفعلية، وأكد أن الأقباط لا يريدون أن يكونوا في وطنهم كالسود في بلاد الأمريكان، معتبرا أنه يرى في تعلق القبطي بوظائف الحكومة علامة انحطاط وفتور، ودعا لئلا يتم النظر إلى ميزانية الدولة على أنها كالمال الموروث؛ فالواجبات الوطنية واحدة والوطن واحد.
وصدر كتاب بأعمال ذلك المؤتمر بعنوان "تذكار المؤتمر القبطي الأول" أصدره "توفيق حبيب".
وبعد ثلاثة أيام انقضى المؤتمر بانتخاب لجنة مستديمة من 70 عضوا، وانتخبت تلك اللجنة لجنة تنفيذية من 12 عضوا.
ورغم أن انعقاده كاد يشكل تصدعا في أساس الوطنية التي يقف عليها المصريون فإن المؤتمر أكد على قاعدة المواطنة المبنية على أساس من المساواة العامة، وذلك انطلاقا من القيم التي تربط المصريين ومن أساس آخر هو المصلحة، وأن التفرقة لن تكون في صالح الأقباط أنفسهم، وأن حل المشكلات بين المسلمين والأقباط لا يكون من خلال إقرار التمييز بين عنصري الأمة، ولكن يكون بمزيد من الانفتاح والاندماج بينهما من خلال التوظيف حسب الكفاءة، ومن التعليم المشترك الذي يبني قيمة التعايش بين المصريين منذ تنشئتهم الأولى، وكذلك أن يكون الانتخاب بالاقتراع العام، ومن ثم كان الاندماج هو الحل الأمثل الذي رآه المؤتمر، وأن يكون مبدأ المواطنة هو الحاكم للتعايش بين المصريين والأقباط.
كان من تداعيات المؤتمر القبطي أن انعقد مؤتمر آخر، عقده عدد من كبار الشخصيات المسلمة في مصر يوم السبت (30 من ربيع الثاني 1239هـ= 29 من إبريل 1911م) بحي مصر الجديدة عرف بالمؤتمر المصري.
مصطفى عاشور
![](http://www.mamarocks.com/rosetrio03.gif)
|