27-12-14, 02:06 PM
|
|
الصدق ولاشيء غيره , كنت تواقاً إلى التقاعد في بواكير حياتي . كنت أسمي يوم التقاعد يوم الزينة , حينما حُشر السحرة وتقاعدوا من السحر والحياة . أنا أريد أن أكون ساحراً إلى زمن ما . التقاعد مرير حين يُظن أن المتقاعد كبير في السن ولذلك عندما خطب صديق متقاعد امرأة عانس فردته وقالت : متـــ قاعد . وهو الموت قاعداً دون أن ينعيك الأصدقاء الأعداء من أهل المهنة التي وضعها القدر في طريقك .
هكذا اعتقدت طيلة ربع قرن هي مشواري الوظيفي أن التقاعد هو سدرة المنتهى التي أحلم بها . الأيام أثبتت خطأ اعتقادي وأن ما كنت أظن متفردا به ليس له أي قيمة في عالم البنكنوت ولا أملك أي بديل أعول عليه في ملء الفراغ أو ملء الجيب بالدراهم ( المراهم لأوجاع الزمن ) . لكن هذا الأمر ( التقاعد ) أمر دُبّر بليل بهيم وهذا ما يحز في خاطري ويجعلني اتراجع عن قناعاتي بالتقاعد . دعوت الله سرا وجهارا أن أراهم يخرجون قبلي واستجاب الله دعائي فرأيت اثنين من الثلاثة يخرجان مطأطيء رؤوسهم ترهقهم ذلة , دُعيت إلى حفل التأبين الخاص بهما , فقلت : لا حباً ولا كرامة , اذهبا عليكما ما تستحقان من نظرات الشماتة والاحتقار . لم أذهب إلى حفل تقاعدهم وما شى حالهم أبيات المتنبي
كم قد قُتلت وكم قد مت عندكم ... ثم انتفضت فزال القبر والكفن
قد كان شاهد دفني قبل موتهم ... جماعة ثم ماتوا قبل من دفنوا
( ثم ماتوا قبل من دفنوا ) هكذا رأيت حالهم , انتظر خروج الثالث مشيعاً بنظرات الشماتة وهو من أشدهم وطأة على نفسي لثقل طينته وخبث نفسه ولم تراودني نفسي يوما بضرب امريء كما راودتني أمام هذا المخلوق العجيب , الغبي في كل شيء إلا أمور اللعانة وتصيد الأخطاء ونصب الأحابيل للناس الطيبين أمثالي . لكن خشيت سوء العاقبة التي تضيع ما تبقى من حقوقي التي استعين على كأداء الحياة وبؤسها . أتمنى أن يتقاعد قبلي ولو برهة , فهو من أشد المتمسكين بالعمل ولو قدر له أن يقرأ قرار تقاعده ربما يخر صريعاً , وهكذا كلما رأيت خطابا مغلفا يخصه تمنيت أن يكون ذلك الخطاب لأقوم بواجب المواساة !
رجل مثل هذا أمضى ثلاثين عاما وهو عبد للوظيفة ولديه من المال ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة يعض الوظيفة بنواجذه ( جعلها السوسة ) , فلا يُلام فقير حال مثلي لو تشبث بوظيفة الأحذية الغليظة .
ماذا لو حاولت أن أعود لمهنتي الأولي ؟
بدأت صحفيا بحسب التخصص الجامعي وكان يمكن لي أن أصبح شيئا يشار له بالبنان لو استمريت ولو لم يفكر صدام رحمه الله بغزو الكويت . لا يمكن أن أعود الآن وزملائي بعضهم رئيس قسم , وبعضهم مدير تحرير , أحدهم ملأ القنوات الفضائية ضجيجا وزعيقا تلمست منه أن يساعدني في نشر روايتي اليتيمة ( صعلوك الزمن الرديء ) . ماطل في الأمر حتى جعلني أكره اليوم الذي حدثته بالأمر , وجعلني أكره الرواية وكان مما قلت : يا بن الحلال , السوق مملوء بغثاء من نوعية ( كخة يا بابا ) ( ومذكرات جنط ) و( رحلة طالب سعودي في أوربا ) ولن تكون روايتي اسوأ منهم . لكنه استعصى فهو يكثر من المواعيد ويماطل كمواعيد عرقوب أخاه بيثرب , وهو بالمناسبة من أهل المدينة .
الصحافة لم تخلق لمثلي فأنا مواطن صالح يسدد فواتيره أولا بأول , حتى الإنترنت الضعيف والدائم الإنقطاع أسدده بوقته , على رأي عادل إمام : خفت يأخذوا العدّة . مهنة الرقص على الحبال والرقيب صاحب المقص الملتهب , أنا رقيبي موجود دائما في عقلي وهو من معوقاتي الفكرية الدائمة . يقولون بأن الكتابة النافعة والمبدعة يجب أن تنبذ الرقيب من رأسك , بل أن تركله إلى الهاوية بحيث لا يعود يطل عليك بين الأسطر, نحن نخشى أن نسيء لمخلوق ضعيف مثل بعض البشر الذين جرعونا الغصص , فكيف بهيلمان وسلطان وبشر يجعلون سحنتك تختفي خلف الشمس . مؤمن بالحكمة التي توضع كلافتة في الطرقات المكسرة ( يا بابا لا تتهور , نحن بانتظارك ) .
ما يتم تحصيله من راتب التقاعد يمكن له أن يكفي خمسة أشخاص , لكن أفواه وأرانب بهذا العدد الذي أنعم الله , ولا زالت الحسّابة تحسب , نحتاج إلى دخل آخر يغطي التكاليف أو دعوة العبد الصالح توفيق عكاشة : ربنا يأخذ مراتي !
|