إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان

حين أقرأ آيات الله في كتابه العزيز أقف مدهوشة معجبة وحين تمرّ بي الشدائد وتمتلئ نفسي بالهموم أنشد المدد والعون في تلاوته وفهم معانيه..  "ثورة الزوجات".. أثار هذا الموضوع شجوني لما لدى من مخزون لحالات أقسى وحكايات كثيرة ليس لزوجات فقط، ولكن أيضًا لأزواج رجال.. نعم رجال يعانون أشدّ المعاناة من أجل لمّ شمل الأسرة وصورة الأولاد أمام المجتمع، وحالة الأولاد النفسية في مجتمع ما زال يرفض التعدّد ولا يقبل الطلاق، وينظر إلى المطلقة والمطلق نظرة الجاني المتهم صاحب السوابق.
تظلّ المعاناة ويحترق نفسيًا ويذبل الغصن وتتساقط أوراقه وهو ما زال برعمًا، وتفاجأ من الشكوى الصحية؛ صداع دائم، قرحة بالمعدة، قولون عصبي، وأحيانًا نزيف، ناهيك عن الاكتئاب والتردّد على العيادات النفسية. وهكذا تضيع الدنيا والآخرة؛ فلا صلاة بخشوع، ولا قراءة قرآن، ويصبح الهم والنكد وجبة يومية، ولك أن تتقبل نتاج هذا الجو من جيل منشود تعده وتربيه امرأة محطمة أو رجل مقهور.
وألجأ إلى القرآن فأفتح سورة "الطلاق" وأتلوها بخضوع وتتساقط الدموع أمام هذا الإعجاز، أمام هذا الحشد العجيب من الترغيب والترهيب، والتعقيب على كل حكم ووصل أمر الطلاق بقدر الله في السماوات والأرض وفي الفرَج والسعة لمن يتقونه وتكرار الأمر بالمعروف والسماحة والتراضي وإيثار الجميل والإطماع في الخير والتذكير بقدر الله في الخلق وفي الرزق وفي اليسر والعسر، وأمام هذا التفصيل الدقيق للأحكام حالةً حالة، والأمر المشدَّد في كل حكم بالدقة في مراعاته وتقوى الله في تنفيذه ومراقبة الله في تناوله والإطالة في التعقيب بالترغيب والترهيب إطالةً تشعر القلب كأن هذا الأمر هو الإسلام كله بل هو الدين كله.
إن الإسلام حين يقيم العلاقة الزوجية يقيمها على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية التي تجعل من التقاء جسدين التقاء نفسين وقلبين وروحين، وبتعبير شامل التقاء إنسانين تربط بينهما حياة مشتركة، وآمال مشتركة، ومستقبل مشترك، يلتقي في الذرية المرتقبة، ويتقابل في الجيل الجديد الذي ينشأ في العش المشترك الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان، يحرسان ويضمّان الحلم ويغذيانه بالحب والدفء الذي يملأ أركان عشهما.
والأصل في الرابطة الزوجية هو الاستقرار والاستمرار، والإسلام يحيط هذه الرابطة بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها، يفرض الآداب التي تمنع التبرج والفتنة كي تستقر العواطف ولا تتفلت القلوب على هتاف الفتنة المتبرجة في الأسواق، ويفرض حد الزنا وحد القذف، ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليها، ويقيم نظام البيت على أساس القوامة أحد الشريكين، وهو الأقدر على القوامة منعًا للفوضى والاضطراب والنزاع، إلى آخر هذه الضمانات الواقية، وفوق كل ذلك ربط هذه العلاقة كلها بتقوى الله ورقابته.
ولكن الحياة الواقعية للبشر تثبت أن هناك حالات تتهدَّم وتتحطَّم على الرغم من جميع الضمانات وهي حالات لا بد أن تواجه مواجهة عملية اعترافًا بمنطق الواقع الذي لا يجدي إنكاره حين تتعذّر الحياة الزوجية، ويصبح الإمساك بالزوجية عبثًا لا يقوم على أساس!!
والإسلام لا يسرع إلى رباط الزوجية المقدسة فيفصمه لأول وهلة، إنه على العكس يشدّ على هذا الرباط بقوة، إنه يهتف بالرجال: (
وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) فيميل بهم التريُّث والمصابرة حتى في حالة الكراهية، ويفتح لهم تلك النافذة المجهولة (وَيَجْعَلَ اللّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، فما يدريهم لعل الله يدَّخر لهم هذا الخير فلا يفلتوه. وإذا تجاوز الأمر مسألة الحب والكراهية إلى النشوز والنفور فهناك محاولة يقوم بها الآخرون وتوفيق يحاوله الخيِّرون: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)، (وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ).
فإذا لم تُجْدِ هذه المحاولة فالأمر إذن جدّ، وإمساك الزوجية على هذا الوضع إنما هو محاولة فاشلة يزيدها الضغط فشلاً وتعاسة، فالحكمة إنهاء هذه الحياة على كُرهٍ من الإسلام فإن أبغض الحلال إلى الله الطلاق. ليست هذه دعوى للطلاق، ولكن هناك حالات أراد الله -سبحانه وتعالى- بتشريعه مواجهتها بعملية واقعية، فشرع لها ونظَّم أوضاعها وعالج آثارها، فديننا دين واقعية يعالج حياة البشر، ويدفعهم دائمًا للأمام، ويرفعهم دائمًا للسماء، ويربطهم بها حتى تصفو النفوس وتتطهر وتسمو وتصبح أهلاً للاستخلاف في الأرض.
سحر عبده